فاطمة الحارثية
في مساء غائم، لا يشبه ليالي البشر، يجتمع أبو جهل وفرعون وأبو لهب والنمرود في ضيافة قارون، كل ليلة خميس حول مائدة من ذهب، يتسامرون ويتبادلون الخبرات والخطط، يحرسون شرهم وأوهامهم كما يحرس الحراس القصور.
كان حضور النمرود يزعجهم بعض الشيء؛ فالذبابة التي تسكن رأسه لم تكفّ عن الطنين، وهذا يفسد عليهم صوت ألحان العازفين ويسرق منهم متعة السهرة، لكنهم على مضض، يُدركون ويعترفون أن أفكاره الذبابية أكثر نشوة من أفكار فرعون وأبي جهل التي علاها غبار الزمن.
قارون، المُثقل بأطنان الذهب والتراب، مازال يحافظ على بقايا هيئته بفضل درعه السميك المُطعم بالجواهر بعد نجاته من نكبته التي هزّت كيانه، وأسقطت وهم القوة الذي كان يسكنه لعقود، لكنّه زحف بما تبقى له من عزّة، وابتسم بمرارة وهو يملأ الكؤوس قائلا:
- رغم أنك سحبتني يا فرعون من الأنقاض لكن ثروتي وذهبي من حماني في سقوطي، من غيري يخرج من باطن الأرض وجسده سليم مزدان بالذهب؟
قهقه فرعون بصوتٍ متعال، وهو يلوّح بيده كمن يمنح الحياة والموت:
- لكن ثروتك يا قارون لم تحفظ لك مقامك، أما أنا، فسلطاني على النَّاس باق لا يزول!
تدخل أبو جهل وهو يُشعل ناره:
- كلنا باقٍ ما دامت نار الفتنة مشتعلة، الناس وقودنا، ما دامت كراهيتهم تغذي عروشنا.
ابتسم النمرود ابتسامة ساخرة، والذباب يُسمع الحضور طنينه:
- أنتم تبيعون الوهم بأسماء مختلفة، مال عند قارون، وسطوة عن فرعون، وقبلية عند أبي جهل.... لكني أملك ما لا تملكون: الجنون! ومن لا يملك الجنون لا يعرف كيف يقتنص الطاعة من قلوب الضعفاء.
ساد صمت قصير، قطعة وقع خطوات هامان وهو يدخل القاعة بخيلاء، انحنى قليلاً أمام فرعون، ثم قال بصوت رخيم:
- رد المظالم ليس من صفاتك يا مولاي، لكنه شعار جميل لخطابك القادم، دعني أزينه لك، أقنعهم أن الخنوع الصامت حكمة، وأنهم خُلقوا ليكونوا صدى لحكمك وأمرك.
ارتسمت على وجه فرعون ابتسامة ماكرة، بينما قارون أدار كأسه الذهبية في صمت، وأبو لهب صفق بيده مهللا، وحده النمرود انفجر وهو يقهقه بصوت عال وهو يضرب رأسه، والذبابة لا تفارقه.
وهكذا، في ذلك المجلس، تجلّت صورة الأشباح متعانقة: مال يتهاوى، وسلطة تتغطرس، وطموح يتآمر، وجنون يطن بلا توقف. يعلمون أن نهايتهم متشابهة، لكنهم كانوا يستمتعون بليلة أخرى من الوهم والفتنة، كأن ليلة الخميس القادم لن تأتي إليهم والمرايا الذهبية من حولهم لن تتجلى ببهاء سطوتهم مرة أخرى.
وفي الغرفة المجاورة للمجلس، كان يُرى من النافذة ليل حالك السواد، والسماء مكسوّة بطبقات من الدخان... يتبع مجلس سقر -2.
وإن طال...
كم تكرر عبر العصور والأماكن من أشباه لهم... وكم قابلت منهم وربما جميعهم في منزلك أو حولك... وكم احترت فيهم، وكم خانك الحديث عنهم خوفا من غدر معاجم الكلمات، وتأويل الرُواة، هل سيخجل التاريخ منَّا أم أن الحشر سيُطأطأ الرؤوس دون تميز بين جبابرة العصور والمكان، والصامت و....
******
** بُنِيَ النص على شخصيات رمزية.